الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
السبب الرئيس في شقاء الإنسان هو الوسيلة التي اختارها لسعادته:
أيها الإخوة المؤمنون؛ هناك موضوع عن أعظم مطالب الإنسان في الحياة، الحقيقة لو أنك سألت أيَّ رجل أو أي إنسان على وجه الأرض كائناً من كان، مِن أي عرق، من أي جنس، من أي قوم، من أية ملّة، من أية نِحلة، من أي دين، أيّ إنسان سألته عن هدفه في هذه الحياة لقال لك: أنْ أسعدَ في هذه الحياة، هذا الجواب الجامع المانع المشترك بين جميع البشر على اختلاف أنواعهم، وألوانهم، وأجناسهم، ومِلَلهم، ونِحَلهم، مِن أين يأتي الخطأ إذاً؟ ما دام الهدف واحداً، مادام البشر جميعاً يتجهون نحو هدف واحد، وهو أن يسعدوا أنفسهم، من أين يأتي الخطأ؟ لماذا في الحياة أُناس يَشْقَون؟ لماذا في الحياة أناس مُعذَّبون؟ لماذا في الحياة أناس هالكون؟ ما دام هدفهم جميعاً هو السعادة، الجواب عن هذا السؤال: إنهم أخطؤوا في تصور الوسيلة التي تُفضي إلى هذه السعادة، من هنا جاء الخطأ.
نموذج من البشر الذين أخطؤوا في اختيار الوسيلة:
الهدف واحد، والتصور مشترك، لكنهم أخطؤوا في اختيار الوسيلة التي توصلهم إلى هذه السعادة، بعض الناس رأى السعادة كل السعادة في جمع المال، كسب المال غير جمع المال، قد يكسب الإنسان مالاً ليحيا به، لأن المال كما قال الله عز وجل قِوام الحياة، جعله الله لنا فيه قياماً، كسبُ المال من أجل أن يُنْفِق على نفسه وعلى عياله، وأن يتقرب به إلى ربه، وأن يصون أهله عن التّطلع إلى غيره، هذا كسب المال، لكن جمع المال كما قال عليه الصلاة والسلام،
(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: منهومان لا يشبعان؛ منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع. ))
[ صححه الحاكم ووافقه الذهبي، ورواه الدارمي موقوفاً عن الحسن بكماله ]
إذاً قد يتوهم أو يتصور الإنسان أن سعادته في جمع المال، يسعى إلى جمعه ليلاً نهاراً، سراً وعلانية، في كل أوقاته، كل خواطره، كل هواجسه، كل مشاعره، كل طاقاته، كل جهده، كل إمكاناته، كل تفكيره، ساحة نفسه ليس فيها إلا المال، يسعى ويُجَمّع من الأموال ما لا يحصى، وتأتيه المتاعب، والهموم، والأزمات إلى أن يكتشف في وقت متأخر وبعد فوات الأوان أن المال شيء ولكنه ليس كل شيء، بل ربما كان جمع المال سبباً للشقاء في الدنيا والآخرة، وعلى هذه الحقيقة ألف قصة وقصة تعرفونها جميعاً، هذا يُصاب بأمراض عضالة، هذا يُصاب بأزمات قلبية، هذا يُصاب بهمٍّ، هذا يقول لك: الدنيا أطبقت عليّ، هذا يقول لك: كاد قلبي يتفطّر من شدة الألم، له محضر ثمنه ستون مليوناً أُخذ منه، إذاً قد يتصور الإنسان أن سعادته في جمع المال فيسعى له ليلاً نهاراً يستهلك وقته كله، يستهلك شبابه، يستهلك عمره، ويكتشف بعد فوات الأوان وفي خريف العمر أن المال ليس كل شيء بل هو شيء، وربما كان جمعه سبباً لشقاوته وتعاسته.
متى يكتشف الإنسان خطيئته؟
أيها الإخوة الأكارم؛ أنا والله أربأ بكم عن ان يكتشف أحدكم هذه الحقيقة في وقت متأخر، والله المال لو ملكت مال قارون لن يُسعدك إلا أن يشاء الله أن يسعدك، والله قد تخيم على بيت سعادة لو يعلمها الأغنياء لَتَخَلَّوا عن ثرواتهم كلها ليكونوا في مصاف هذا الذي أسعده الله، إذا الله عز وجل وهب السعادة لإنسان لا أحد في الكون يستطيع أن يسلبه إياها، قد يتوهم الإنسان السعادة في أن يكون له مركز مرموق، وهذا المركز المرموق إما أن يُحصّله بالقوة وإما أن يُحَصّله بالعلم، فيسعى لنيل اعلى الشهادات لا لشيء إلا لتدغدغ نفسه كلمة دكتور مثلاً، قد يسعى لمرتبة عاليةٍ عالية كي يشعر أنه فوق الناس، يتوهم أنه إذا نال هذه الشهادة العليا، وكتبها على مدخل بيته، ورحّب الناس بها، ونظروا له نظرة إكبار، وتبجيل، وتعظيم، روّى في نفسه حبّ العظمة، قد يصل إلى هذه المكانة المرموقة إما عن طريق القوة أو عن طريق العلم، لكنه يكتشف بعد فوات الأوان وفي خريف العمر أن الوجاهة زائلة وليست كل شيء، قد تكون شيئاً ولكنها ليست كل شيء، بل ربما كان سعيه لهذه الوجاهة سبباً في شقاوته، كلمة "آه" يتلفظ بها الإنسان في خريف العمر وكأن نفسه تذوب فيها، ضَيّعت، عرفت بعد فوات الأوان، وقد يتوهم الإنسان السعادة في اقتناص الملذات من نادٍ ليلي إلى نادٍ ليلي، من سهرة حمراء إلى سهرة خضراء، من مكان إلى آخر، من فندق إلى فندق، من بلد إلى بلد، أموال طائلة وشباب وفير، فها هو ذا ينفق أمواله على ملذاته، ما قولكم أن هذا الذي يسعى للذته قد ينتحر في ربيع العمر؟ يكشف تفاهته، يكشف أن الإنسان إذا تَبِع لذته صار حقيراً، صار دنيئاً، صار تافهاً، صار هامشيّاً، صار نوعاً من الحيوان، كشفت بعض الدول التي قطعت مراحل واسعة في التصنيع وفي إحلال العلم والآلة محل الإنسان، كشفوا أن أثمن ما في الحياة هو الإنسان، وأننا من أجل أن نُحَقِق بعض الأهداف الحضارية نُضحي به، فإذا ضحينا به ضحينا بكل شيء، لذلك شعوب، أمم، أناس لا يعرفون شيئاً هم كالآلات يعملون ليأكلوا في مشارق الأرض ومغاربها، بهائم، أي أناس ليس بينهم وبين البهائم فرق أبداً، لا يعرفون إلا العمل المُضني، واقتناص اللذائذ كالبهائم، والاستمتاع بالطعام والشراب، ولا قيمة، ولا فكرة، ولا مبدأ، ولا هدف:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾
هذا الذي يسعى إلى اقتناص اللذات يكتشف بعد فوات الأوان وفي خريف العمر ان اقتناص اللذات ليس كل شيء بل هو شيء حقير، بل إنما كان اقتناصه لهذه اللذات سبباً لشقاوته في الدنيا والآخرة، أقول لكم كلاماً واضحاً كالشمس: ما من مخلوق، على شكل ضيق، ما من إنسان على وجه الأرض إلا ويسعى لسعادته، ولكن الخطأ الفاحش الكبير الفادح يتأتّى من سوء تصور الوسيلة المُفضية إلى هذه السعادة، إذا توهمتها في المال فأنت مخطئ، إذا توهمتها في القوة والعز والسلطان فأنت مخطئ، إذا توهمتها في اقتناص الملذات فأنت مخطئ، إذا توهمتها في الفن فأنت مخطئ، إذا توهمتها في السياحة فأنت مخطئ، وهذا الخطأ خطأ مصيري، خطأ لا يُصحح، خطأ لا يُعدّل، خطأ لا يتلافى، خطأ مدمر، خطأ يسبب شقاوةً إلى الأبد.
المؤمن لم يتعثر في اختيار الطريق لأنه تعرّف إلى الله:
أما المؤمن هو كغيره من بني البشر يسعى لهذه السعادة، ولكنه عرف الطريقة الصحيحة الموصلة إليها، عرفها في معرفة الله، عرفها في طاعته، عرفها في القرب منه، لذلك خط المؤمن البياني في صعود دائم أبداً، بعد أن عرف الله مِن خير إلى خير، من سعادة إلى أكبر، من عقل إلى عقل، من رِفعة إلى رِفعة، من طمأنينة إلى أمن، أبداً خطه صاعد ولو جاء الموت، يأتي الموت ويتابع خطه البياني الصعود، وما الموت إلا نقطة على هذا الخط، لأنه تعرّف إلى الأبدي السرمدي، تعرّف إلى الحيّ الذي لا يموت، تعرّف إلى الذي سيكون معه إلى أبد الآبدين، تعرّف إلى الذات الكاملة، تعرّف إلى من بيده ملكوت كل شيء، تعرّف إلى مصدر الحق، مصدر الخير، مصدر الجمال، تعرّف إلى الله، كان الله ولم يكن معه شيء:
﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.
1- الفرق بين المؤمن وغيره في الحياة:
الآن من المفارقات أن هذا المؤمن الذي سعد بربه قد يفتقر إلى المال، قد يكون دخله لا يكفيه إلى آخر الشهر، ومع ذلك هو أسعد السعداء، قد تكون في جسده علة مَرَضية مزمنة، ومع ذلك هو من السعداء، قد يكون ذا شأن يسير لا أحد يعرفه ومع ذلك فهو من أسعد السعداء، قد تكون حياته خشنة، ومع ذلك فهو مِن أسعد السعداء، ما هذه المفارقة؟ أي تملك المال وتشقى؟ تملك القوة وتشقى؟ تملك عزّ الدنيا وتشقى؟ تُمضي العمر كله في اللذائذ وتشقى؟ ويكون نصيبك من المال قليلاً وقد عرفت الله فتسعد، وقد يكون شأنك في الحياة متواضعاً وتسعد؟ وقد تكون حياتك خشنة وتسعد؟ هذا هو سرّ الإيمان، هذا هو السر، ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتك فاتك كل شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء.
2- لن تسعد إلا بمعرفة الله عن طريق دينه:
لذلك لن يتحقق مطلبكم جميعاً في الدنيا والآخرة إلا عن طريق الدين، لن يتحقق مطلبكم الأسمى وهو أن تسعدوا في الدنيا والآخرة إلا عن طريق معرفة الله، وعن طريق التقرب إليه، وعن طريق خدمة خلقه، وعن طريق محبته، وعن طريق التضحية بكل نفس ونفيس، وغال ورخيص من أجل هذا القرب، هذا ملخص الدين، أي الله سبحانه وتعالى هو الحقيقة الكبرى في الكون ولا حقيقة سواها:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
وأيّ شيء يُقربك من الله فهو الحق، وأي شيء يُبعدك عن الله فهو باطل، صار الباطل له معنى آخر، أي شيء استهلك وقتك ومنعك من أن تكون مع الله في هذا الوقت فهو باطل، هذا الذي يجلس ويلعب النرد مع أصدقائه تسلية فقط، تمضية وقت هذا باطل، لأنك مخلوق لهدف ثمين، ها أنت ذا تستهلك الوقت في هدف تافهٍ لا جدوى منه.
أيها الإخوة الأكارم؛ أعظم مطالب الإنسان في هذه الدنيا السعادة، ووالله الذي لا إله إلا هو لن تبلغوها إلا عن طريق معرفة الله، يا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟ والبطولة عند تلك الساعة الرهيبة التي يغادر فيها الإنسان الدنيا، قال تعالى:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾
من أجل أن يبلغ هذا المطلب لابدّ من التعرّف على طبيعة تحرك الإنسان في الدنيا، وما الذي يؤثر في تحركاته، الموضوع الآن يتسم بطابع علمي، الموضوع الذي سوف نأخذ منه بعض اللمسات، نحن في حياتنا اليومية عندنا بصر، عندنا سمع، عندنا شم، عندنا ذوق، عندنا إحساس بالحرارة والبرودة والضغط والنعومة والخشونة بالجلد، فسمعُنا، وبصرُنا، وذوقُنا، وشمُّنا، وجلدنا ينقل لنا أحاسيس العالم الخارجي، والإنسان ينطوي على نفس، تفرح، تحزن، تغضب، تُحب، تبغض، تخاف، تتألم، تتشوق، تكره، هناك مشاعر داخلية وهناك أحاسيس خارجية، المشاعر الداخلية والأحاسيس الخارجية تنتقل إلى مركز في الدماغ تحب أن تسميه: مركز الإدراك، لك ذلك، العلماء القدامى سموه: المصورة، أي مكان تجميع الصور، عندنا صور بصرية، صور شمِّية، صور سمعية، صور داخلية، صور ذوقية، هذا المركز يتلقى صوراً خارجية وصور داخلية، هذا المكان اسمه المصورة.
المصورة مركز تجميع معلومات إن صح التعبير أرشيف، هذا المركز يرسل إلى مركز آخر وهو مركز التخيل، الذي اخترع الطائرة، أو اخترع السيارة، أو الذي كشف الكهرباء، أو كشف هذه المخترعات، هذا استعان بمصورته أو بمركز الإدراك وألّف من هذه التي يعرفها شيئاً جديداً، هذا هو التخيل، كيف يتخيل الإنسان؟ يأخذ من معلوماته، من مبصَراته، من مشموماته، من أذواقه، من أحاسيسه، من مشاعره الداخلية شيئاً جديداً، أي ليس هذا الجديد كلياً لكن مواده الأولية قديمة، لكن شكله جديد، فهذه المصورة أو هذا المركز مركز الإدراك بالتعريف الحديث، هذا المركز يُمِدُّ مركز التخيل بالمواد الأولية.
المهندس حينما يرسم بناء، يعمل في هذا الرسم عن طريق مركز المُخيلة، ما من إنسان يُبدع، الشاعر الذي ينظم الشعر، هذا المكان مركز المُخَيلة، يسمونه: الخيال الخلّاق، هناك خيال شعري، خيال فني، خيال علمي، خيال فلسفي، الخيال أنواع، على كل يعتمد الخيال على المعلومات، والصور، والأحاسيس التي يتلقاها الإنسان من محيطه الخارجي ومحيطه الداخلي، وهذه الصور النفسية والحسية تُخَزّن أيضاً في الذاكرة.
عندنا مركز ثان في الدماغ الذاكرة، وقد تحدثت في مناسبات عدة عن الذاكرة، وكيف أنها تحتوي على مليون مليار معلومة الذاكرة، هذه المُدركات، أو هذه الصور، أو هذه المصورة، أو هذا الأرشيف بالتعبير العلمي، هذا ينتقل إلى مركز آخر اسمه: مركز البحث العلمي، أو يسمونه: التفكير، أي أنت سمعت قصة تفكر فيها هل هي صحيحة؟ يوجد عندك مقاييس، تقيسها ببعض المقاييس، إما مقاييس نقلية قرآنية، أو مقاييس عقلية، أو مقاييس واقعية، على كل إذا سمعت قصة، أو شاهدت مشهداً، أو رأيت ساحراً أمسك بسكين وأدخلها في بطنه، هذه صورة، لكن هذه الصورة نُقِلَت إلى مركز البحث العلمي، ليكون نَصْل السكين يدخل في مقبضها، قد تكون حيلة هذه، تُفكر، التفكير عملية تحليل وتركيب وقياس وتمحيص وتدقيق ودراسة المقدمات والنتائج.
عملية تحليل البحث العلمي عن طريق التفكير:
مركز البحث العلمي يتناول هذه الصور وهذه المشاعر فيحللها ويركبها ويقيسها ويزينها إلى أن يفرزها، يفرزها إلى أربعة أنواع، أول نوع: الوهْم، أحياناً الإنسان يسمع قصة، يقول هذه كذب غير صحيحة، خرافة، خلط، خلال دقائق ما الذي حصل؟ الأذن نقلت الصوت، مركز الإدراك أدرك معنى القصة، مركز الإدراك نقلها إلى مركز البحث العلمي أي فكر فيها فقال لك: هذه خرافة، فهذا المركز مركز البحث العلمي يُمَحّص الصور والمشاعر، يُصنفها في اربعة تصانيف:
أول صنف: الوهم، الوهم لا أساس له من الصحة، أخي قال: يوجد دواء إذا الإنسان مات وشربه يحيا، نقول له: خلط، مركز البحث العلمي رفض هذه الفكرة، رفض هذا المبدأ، يوجد دواء يُضاعف العمر، يعيش الإنسان مئة وعشرين سنة فيه إذا شربه، ليس صحيحاً، مركز البحث العلمي يُصنف الأشياء تصنيفاً آخر، على مستوى الشك، الشك إذا كان برهان الإثبات في مستوى برهان النفي، شيء يُحيّر، هذه القصة من جهة صحيحة، من جهة غير صحيحة، هذه توضع في تصنيف الشك، الشك يُعاد النظر فيها، تُخزن في الذاكرة ريثما يتمّ التحقق منها، ويوجد عندنا قسم ينتقل إلى مستوى غلبة الظن، أي أغلب الظن أنه صحيح، ويوجد عندنا قسم خطير جداً هو قسم اليقين، فالبحث العلمي أو مركز التفكير يُصَنف كل الصور، والمشاعر، والمشاهدات، والمسموعات، والمُبصَرات، والقصص، والأفكار، كل شيء وصلك يصنفه، وهْم، شك، غلبة الظن، اليقين، اليقين قطعي، غلبة الظن قريب من القطعي، الشك يُخزّن ريثما يُبَت فيه، أي يستوي نقضه مع إثباته، الوهم يُلغى، ومركز البحث العلمي يزود الذاكرة بنتائج بحوثه.
التحصيل الحاصل من عملية التفكير أن العقل السليم لا يتعارض مع الدين:
إذاً صارت الذاكرة يوجد لها تغذيتان، تغذية من المصورة مركز الإدراك، وتغذية من مركز البحث العلمي، ومركز البحث العلمي يصنف هذه النتائج في ثلاثة أنواع؛ نوع اليقين، غلبة الظن، الشك، الشك يبحثه مرة ثانية إما أن يجعله مع الوهم فيرفضه وإما أن يجعله مع غلبة الظن فيقبله.
الآن مركز اليقين، هذا الذي توصلت إليه يقيناً ينطبق على الشرائع السماوية تماماً، هذا الحق الصحيح، هناك تطابق بين العلم وبين الدين، الذي جاء من السماء من خالق الكون ينطبق مع النتائج التي توصل إليها العقل عن طريق منهجه الصحيح، لذلك لابد من تطابق العلم والدين، وما عُهِدَ أن في كتاب الله كله حقيقة تُناقض حقيقة علمية، وما عُهِدَ في العلم الصحيح أن فيه شيئاً يُناقض كتاب الله، هنا حصل لقاء حتمي، بل إن مقياس العقل السليم تطابقه مع ما جاء في الشرع الحكيم، هذه خذها مني قاعدة، أي فكرة تقرؤها صحيحة إذا تطابقت مع آية كريمة، وباطلة إذا تناقضت معها، لو أنك قرأت مقالاً عن الربا، وأقنعك الكاتب أن الربا لا شيء فيه، ضروري لهذا المجتمع، والله عز وجل يقول:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
فهذه المقالة باطلة، لأن العقل لا يمكن أن يصل إلى نتيجة تُخَالِف الشرع الذي هو من عند خالق العقل، مستحيل، أنا مستحيل أن أعطيك قماشاً وأقول لك: هذه تسعة أمتار، ثم أعطيك مقياساً وأقول لك: قِسها بهذا المقياس؟ فإذا هي ثمانية أمتار، أنا أعطي مقياساً ينقض كلامي؟ مستحيل، فربنا عز وجل كلامه القرآن، هل يُعقل بالمقياس الصحيح أن نصل إلى شيء مخالف لكتاب الله؟ هذا مستحيل.
وظيفة اليقينيات والظنيات في العقل:
الآن مركز اليقين ينقلب بعد الرضا والتسليم وبعد الطمأنينة القلبية إلى عقيدة راسخة، انظر من أين مشينا؟ من المبصرات والمسموعات والمشمومات والمذوقات والمشاعر الداخلية إلى مركز الإدراك، من مركز الإدراك إلى الذاكرة، وإلى المُخيّلة، وإلى مركز البحث العلمي، وإلى مركز التنسيق، فرزنا هذه المعلومات، المواد الأولية إلى وهم رفضناه، وإلى شكّ أوقفناه، وإلى غلبة ظن اعتقدنا بها، وإلى يقين آمنا به، أما الشك لابد أن يُصنّف إما مع غلبة الظن أو مع الوهم، بقينا على شيئين، شيء جازم يقيني، وشيء يغلب عليه الظن، فالجازم هو العقيدة، والذي يغلب عليه الظن ينقلب إلى إرادة، طبعاً هو الذي يُوَجّه الإرادة، والإرادة تُوَجه السلوك، ما الذي يوجه الإرادة؟ الأشياء التي اعتقدت صحتها، الإرادة تُوَجه ماذا؟ السلوك، لماذا أطلق فلان بصره في الحرام؟ لأنه اعتقد خطأ أن هذا الشيء لا قيمة له، لماذا غضَّ فلان بصره؟ هذا انتقل إلى مركز غلبة الظن أو مركز اليقين، واليقين نُقل إلى الإرادة، والإرادة وَجّهت السلوك، فإذا هو يغض بصره.
لماذا يمتنع هذا الإنسان عن أكل المال الحرام؟ لأنه بمجمل بحثه العلمي وصل إلى أن هذا يُغْضِب الله، وفي غضب الله خسارة كبيرة في الدنيا والآخرة، هذا انتقل إلى مركز اليقين، واليقين إلى مركز الاعتقاد، والاعتقاد وجّه الإرادة، والإرادة وجّهت السلوك.
دور العاطفة بأنها تحرك مشاعر الإنسان والعقل يقودها إلى المسار الصحيح:
الآن عندنا مركز آخر يُضْفِي على هذه المعتقدات حيوية ألا وهو مركز العواطف، الإنسان عقل وعاطفة، فبالعاطفة نغذي المعلومات، نشحنها بطاقة انفعالية، فالإنسان بالعاطفة يُضَاعف سلوكه، القناعات شيء، والعواطف شيء آخر، لذلك أحياناً أنت بحاجة إلى شيئين، إلى قناعة وإلى انفعال، انفعال الحب مع الله عز وجل هذا يُضَاعِف طاقتك في السير إليه، أحياناً يقول لك: هذه السيارة فيها توربو، أحياناً على السرعات العالية يدخل جهاز جديد يعطيها طاقة كبيرة جداً، كذلك الإنسان إذا وصل إلى مراتب عليا تأتي العاطفة وتزيد حماسه وتُضَاعف طاقاته إلى الله عز وجل.
بعد هذا كله الآن يتحدد سلوكه، يتحدد كيف يكسب المال، يُحدد علاقاته مع الآخرين، يُحَدد علاقاته الخارجية، الداخلية، يُحدد مسارب انفعالاته، يُحدد أغراضه.
إذا توصلت إلى المنهج الصحيح وفق تسلسل عملية التفكير حصلت على السعادة:
الآن كل الصحة، والسلامة، والسعادة بعد أن مرت الأمور بهذا الطريق، الذي أريد أن أقوله لكم: هذا موضوع دقيق جداً، وقد لا يكون هذا المكان ملائماً للتعمق فيه، ولكن أَخْذُ القليل -كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه-خير من ترك الكثير، أي أنت سعيد بقدر ما تسلك هذه المعلومات المسار الصحيح، دع في بالك هذه الفكرة، هذه السيارة تستمتع بها إذا سلك البنزين مسلكاً صحيحاً من المستودع إلى المواسير المحكمة إلى جهاز الاحتراق، ينفجر في المكان المناسب، يُحَرّك البيستونات، تنقلب هذه الحركة إلى حركة دائرية، تُدير العجلات تنقلك من مكان إلى آخر، تستمتع بالسيارة إذا سار البنزين في مكانه الطبيعي، فإذا خرج البنزين عن مكانه الطبيعي، وجاءته شرارة واحترق كان الدمار.
هذه المعلومات إذا سارت وفق المنهج الصحيح، من الحواس إلى المصورة، إلى المخيلة، إلى الذاكرة، إلى مركز البحث العلمي، إلى مركز التنسيق العلمي، إلى اليقينيات، إلى غلبة الظن، إلى الإرادة، إلى السلوك، إذًا أنت في طريق الجنة، تَسَعَد وتُسعد.
ينبغي على المسلم أن يكون حذراً من تلقي المعلومات الخاطئة:
الذي أريده منكم ألا تسمحوا لمراكز الدماغ أن تأتيها معلومات مغلوطة، أو أن تعطلوا مركز البحث العلمي أي مركز التفكير، أو أن تُحِلّوا عقيدة في محل اليقين وهي عقيدة خرافية، أي مثلاً إنسان سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يدع أمته تدخل النار، هكذا ببساطة، بسذاجة، الشفاعة لها معنى قيّم، ومعنى سامٍ، أما على معناها الساذج، المعنى السوقي للشفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يدع أحداً من أمته يدخل النار، ويُصِرّ على الله عز وجل بأنه لا يدخل الجنة إلا إذا دخلت أمته معه، ربنا عز وجل يفض المشكلة ويقول له: أدخلهم وانتهى، ادخلوا وأريحونا، هذه إذا اعتقد بها اعتقادًا راسخاً، وضعها مكان اليقينيات لن يعمل شيئاً أبداً، جلس، أكل مالاً حراماً، نظر إلى النساء، فعل.. أخي نحن أمة محمد مرحومة، اللهم صلِّ عليه، يصلي عليه زوراً، يصلي عليه من أجل أن يُمنِّيَ نفسه أنه لن يدخل إلى النار، هذه الفكرة لو أن الإنسان وضع هذه الفكرة بمحل اليقينيات، واليقين وَجّه سلوكه، وبدأ يأكل المال الحرام ويتساهل بأحكام الشرع ولا يبالي اعتقاداً منه بأن النبي عليه الصلاة والسلام لن يدخل الجنة إلا ويدخله معه، وانتهى الأمر، إذا اعتقدت أنك أنت ليس لك اختيار، شقي شقي، سعيد سعيد، منته أمرك، يا أخي لماذا لا تصلي؟ الله ما أراد أن أصلي، هذه مشيئته، يقول له: كله شغل سيدك، هذه إذا كانت الفكرة وضعها مكان اليقينيات، وحرّكت سلوكه سوف يخرب بيته، مشى بطريق الضلال.
الفكر أثمن شيء في الكون وهبه الله للإنسان:
أخطر شيء، هل يوضع مثلاً في صندوق الحديد قمامة؟ لا يجوز، هنا يضع عملات، يضع ذهباً، لا تقولوا: عملات، يضع ذهباً، يضع أشياء ثمينة، أساوراً، أما تضع قمامة في صندوق الحديد؟ هذا ليس وارداً، هذا مركز اليقين مركز خاص، مركز اليقين بضاعته اليقينيات، فإذا كان هناك خرافات كانت في هذا المركز ما الذي يحصل؟ يحدث خلل في السلوك.
دائماً الإنسان مادام الله عز وجل وهبه هذا الفكر، إن الله عز وجل وهبنا أثمن شيء في الكون وهو الفكر، مرة قرأت في كتاب، أنه إذا الله عز وجل خلق الإنسان شقياً من الأزل، وكتب عليه أن يكون شقياً، فسيأتي إلى الدنيا، فلو أطاع الله انقلب علم الله جهلاً، إذاً هذا يجب أن يبقى عاصياً، هكذا شاء الله له، ثم يموت كافراً، ويستحق الخلود في النار، قال: وهذا محض العدل لماذا؟ أنا لفت نظري هذا التعليق، وهذا محض العدل، قال: لأن الله عز وجل لا أحد يسأله، إذا انتفت المسؤولية هل ينقلب الظلم عدلاً؟ الله أعطاك مركز بحث علمي، أعطاك مركز تفكير حر، لا تقبل قصة غير صحيحة، قِسها بمقياس القرآن.
قرأت مقالة أن النحل مهمته الأولى ليست إنتاج العسل، بل مهمته الأولى تلقيح الأزهار، وإنتاج العسل شيء ثانوي، أنا إلى حدّ ما قَبِلت هذه الفكرة، إلى أن قرأت قوله تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)﴾
معنى هذا الأصل إنتاج العسل، القرآن مقياس دقيق جداً، أي في البيع، في الشراء، في الزواج، في الطلاق، في كل شيء، الأصل كتاب الله، فلما الإنسان يسمح لمراكز عقيدته أن يدخل إليها خرافات، أشياء باطلة، أفكار غير صحيحة، أنك أخي إذا أنت نظرت فلا إثم عليك، أنت متزوج، أنت مُحْصَن، ثم إذا شاهدت الجمال قل: سبحان الله، تزدد قرباً من الله إذا تأملت هذا الجمال، شيء جميل؟! هكذا هناك أفكار تأتي للإنسان فيسير في طريق الهاوية، فلذلك الإنسان يجب أن يُمَحص عقيدته، الخطأ في السلوك سهل لأن الإصلاح سهل، أما الخطأ في العقيدة فمدمر لأن صاحبه لا يُفَكر في إصلاح خطئه، يظن أنه على حق وهو على باطل، الخطأ في السلوك سهل أما في العقيدة فخطر جداً، فهذا الذي سوف نتابعه إن شاء الله في درس قادم.
الملف مدقق